قبل البدء في سرد تاريخ نشوء الحركة النسوية الجزائرية، لا بد من التذكير بنقطتين هامتين لفهم السياق العام والخاص: أولاً، الجزائر، عكس باقي الدول العربية رزحت لأكثر من قرن وربع تحت استعمار مشابه للوضع في فلسطين منذ ١٩٤٨. ثانياً، العشرية السوداء شكلت نقطة تحول محوري على كل المستويات.
نلاحظ تأخر ظهور حركة نسوية حقيقية في الجزائر بالمقارنة مع الدول العربية، حيث ظهرت أولى المطالبات في الثمانينات فقط بسبب الاستعمار الفرنسي بدرجة كبيرة. فبينما كانت العراقيات والفلسطينيات والمصريات يخرجن للساحات في الأربعينات ويثرن ضد الإقصاء والحجاب، كانت المرأة الجزائرية لا تزال حبيسة البيت حيث أنها كانت تمثل، بالنسبة للجزائريين، مجرد أداة من أدوات الصراع الثقافي والديني والاجتماعي ضد الإستعمار ويقع على كاهلها رمزية الصمود في وجه التغييرات وتمثيل الهوية الحضارية والخصوصية الوطنية والحفاظ على قيم المجتمع عبر نقلها للأجيال الجديدة.
اعتبر المجتمع الجزائري آنذاك المرأة، وبصفة عامة، الأسرة وبنيتها، آخر معاقل الهوية التي يجب الحفاظ عليها والدفاع عنها، بعد أن دمر الإستعمار البنية القبلية التي كانت سائدة قبلها وأيضاً الركيزة الثقافية والدينية.
هذا الإنغلاق وجد تشجيعاً من السلطة الفرنسية التي لم تطبق في الجزائر قانون العلمانية الصادر سنة 1905 واكتفت بقانون خاص بالأهالي يقصيهم من المجال العام ويمنحهم حق إدارة الشؤون الشخصية عبر المحاكم الشرعية المعتمدة على الفقه الاسلامي.
من ناحية أخرى، أستخدم الإستعمار الفرنسي حالة المرأة الجزائرية لإثبات تفوقه الحضاري عبر المقارنة بين وضعها ووضع الفرنسيات آنذاك. وكما تقول لورا نادر: “لطالما استخدم وضع المرأة في الخطابات الأيديولوجية للمقارنة بين الثقافات المختلفة ومهاجمة الآخر”.
هذا الخطاب المقارن بين “نسائنا” و “نسائهم” استخدمه أيضاً الجزائريون وكان هذه المرة موجها لنساء الداخل من أجل إقناعهن بالقبول بأوضاعهن وعدم المطالبة بأية حقوق حتى لا يتشبهن بنساء العدو المستعمر ولا يسعين لتقليدهن.
في نفس الوقت، ظهر على إستحياء، تيار تنويري كإمتداد للحركة التنويرية التي كانت في المشرق، عرف بإسم “حركة المعلمين الأهالي” في ثلاثينات القرن العشرين والتي دعت لإعادة النظر في وضع المرأة والعائلة عن طريق قراءة معاصرة للشرع الإسلامي على يد العلماء الشرعيين. من أبرز وجوه هذه الحركة، الطاهر الحداد والذي نشر كتاباً سنة ١٩٣٠ عنوانه “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” الذي اثار ضجة كبيرة عند صدوره.
ونلاحظ أنه خلال هذه الفترة، المطالبات بتحسين وضع المرأة ومسايرة المتغيرات العالمية كانت حكراً على الرجال فقط. بعدها، ظهر تيار آخر من المتعلمين الناطقين بالفرنسية، والمتأثرين بثورة ١٧٨٩ والحركة التنويرية الأوروبية، والذين كانوا أول المطالبين بضرورة الثورة على التقاليد التي تحكم المجتمع الجزائري، والإنفتاح على العالم والموازنة العقلانية بين ثوابت الهوية الوطنية والتغيير الذي شهده العالم الغربي وإتخاذه كنموذج.
مع بداية تنظيم المقاومة في الأربعينات وتحولها لثورة في الخمسينات، بقيت قضية المرأة ثانوية ومهمشة لا يجب إثارتها في ظل وجود قضية أسمى هي التحرر من الإستعمار. ورغم مشاركة نساء عديدات في الثورة مثل جميلة بوحيرد وباية وغيرهن، إلا أن اعتبارهن أيقونات ومجاهدات في المقام الأول، حال دون النظر في وضعهن كنساء في المجتمع ويظهر هذا جلياً في الإقصاء السياسي الذي تعرضن له بعد الإستقلال حيث لم تتول أي منهن مناصب قيادية أسوة برفقائهن من الرجال بل تمت إعادتهن للبيوت مجدداً بإعتبار أن دورهن خارجها أنتهى هكذا.
الجانب الآخر من التهميش الذي تعرضن له كان بخصوص الحجاب أو غطاء المرأة التقليدي الذي كان شائعاً وقتها والذي تخلين عنه أثناء الثورة لكن فرض اجتماعياً على النساء بعدها. وأخيراً، عدم التطرق بتاتاً للاغتصاب الذي طال السجينات بالإضافة للتعذيب ولا المطالبة بالتعويض عنه من فرنسا.
بعد الإستقلال، سنة ١٩٦٢، تزايد عدد الفتيات الملتحقات بصفوف الدراسة ثم سوق العمل، وبدأ النظام الاجتماعي التقليدي القائم على ثنائية الرجل في الفضاء العام والمرأة في الفضاء الخاص يتغير شيئاً فشيئاً. لكن هذا التغيير لم يصاحبه أي تغيير قانوني لتحسين وضع المرأة مثلاً، وواصلت الحكومات المتعاقبة العمل بالقانون الذي وضعته السلطات الفرنسية أثناء الإستعمار والمنسوخ من الشرع الإسلامي دون أن تتم كتابته في الدستور وبقي تطبيقه خاضعاً لمزاج القضاة حينها. من ناحية أخرى، استغلت الدولة الجزائرية مشاركة نساء، أصبحن معروفات عالمياً، في الثورة لإيهام الخارج والنساء أنفسهن، أن الوضع جيد وقد حصلن على حقوقهن كاملة، كيف لا وقد حملن السلاح بجانب الرجال وتعرضن لنفس أنواع التنكيل. رغم ذلك، كانت هناك بدايات مطالبات حقوقية نسوية في السبعينات لكن هذا التيار ظل محصوراً في النقابات العمالية والجامعات ولم يجد أي صدى يذكر في أوساط الشعب.
هكذا، كان يجب إنتظار سنة ١٩٨٤ كي تحصل الجزائر على قانون للأحوال الشخصية ضمن الدستور وهو ما يسمى بقانون العائلة، رغم وجود مشاريع منظومات قانونية سابقة (١٩٦٦-١٩٧٣-١٩٧٩) دوّنت وقدمت في سرية تامة لكن لم تحظ بأي إهتمام حكومي وتم سحبها بسبب معارضة بعض الأصوات النسائية حينها.
قانون ١٩٨٤، تم تمريره في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد تحت ضغط من البنك الدولي وضمن خطة لإصلاحات السياسية والاقتصادية التي كانت مبرمجة وفي ظل مناخ قمعي غير مسبوق للمعارضة.
هذا القانون كان أيضاً السبب المباشر في ظهور حركة نسوية مستقلة في الجزائر بعيداً عن الحزب الحاكم والنقابات، كيف لا وقد كان الهدف الرئيسي من قانون العائلة إعادة المرأة الجزائرية لوضعها ماقبل الإستقلال وإعتبارها قاصر تحت ولاية ذكور العائلة ومنعها من السفر دون محرم. غالبية الحقوقيات وقتها كن من خلفية بورجوازية جامعية وشيوعية (تروتسكية بصفة خاصة) وتم إنشاء أول جمعية بجهود ثلاث نساء: خليدة مسعودي، لويزة حنون وعايشة بن عبد المؤمن وتركزت الجهود على افشال تبني القانون الجديد. لكن، سنة ١٩٩٠، مع بداية صعود التيار الإسلامي سياسياً، حل الخلاف بين العضوات المؤسسات وانفصلت عنهن مسعودي بحجة أن حنون وبن عبد المومن لا يردن قطيعة تامة مع المرجعية الاسلامية .
إزدادت الخلافات بين النسويات أكثر سنة ١٩٩٢ حيث تم تنظيم أول إنتخابات تعددية في الجزائر انتهت بفوز جبهة الإنقاذ الاسلامي وتدخل الجيش لإلغاء الانتحابات. حيث ساندت مسعودي الجيش بينما طالبت لويزة حنون بإحترام التعددية ونادت بالحوار السياسي بين أطراف الأزمة.
وهكذا، فشلت النسويات والحقوقيات الجزائريات فشلاً ذريعاً في اللحاق بركب باقي الحركات في العالم أو حتى إحداث تغيير حقيقي أو جذب إهتمام الشعب لمطالباتهن، بسبب العشرية السوداء ووقوف عدد كبير منهن في صف الجيش بحجة محاربة الاٍرهاب وقطع طريق الحكم على الإسلاميين. وتم إستخدامهن من قبل الحكومة الجزائرية لتلميع صورة النظام في الخارج خاصة بين سنتي ١٩٩٣-١٩٩٥ أثناء تصاعد الصراع داخل الأحزاب وحتى أجهزة الدولة بين دعاة الحل العسكري الجذري ومن نادوا بمفاوضات لإيجاد حل سياسي للأزمة.
بعد إنتهاء العشرية السوداء، أصبح دور النسويات مهمشاً للغاية وبينما تحولت بعضهن من داعمات للجيش لعضوات في الحكومات المتعاقبة، اضطرت الغالبية لتغيير النشاط والإكتفاء بالعمل الإجتماعي والخيري وتغير الخطاب من مطالبات سياسية إلى خطاب اجتماعي يناهض العنف الممارس ضد النساء، خاصة بعد الموجة التي شهدتها فترة التسعينات وإنفجار العنف المجتمعي بعدها. ورغم وعود الحكومات المتعلقة بالعلمانية إلا أن التغييرات التي شهدها قانون الأسرة جاءت مخيبة للآمال ولم تضمن للمرأة الجزائرية المساواة التي ينص عليها الدستور بين المواطنين.
السبب الآخر لفشل الحركة النسوية الجزائرية هو تحويل الصراع من مواجهة مع النظام الحاكم للحصول على حقوق سياسية أكبر لصراع متمحور حول ثنائية الإسلاميين vs الديمقراطية على اعتبار أن النظام الجزائري يكفلها وأن التهديد الوحيد هو الأحزاب ذات المرجعية الدينية.
السبب الاخر هو حصر الحركة في طبقة معينة وفي العاصمة فقط حيث لا تلتفت لأوضاع النساء العاديات في صراعاتهن اليومية بعيداً عن الخطاب الأيديولوجي والنظري. والجدير بالذكر أن اقصى عدد استطاعت النسويات حشده في مظاهرة لم يتعد أبداً ال ٣٠٠ امرأة حتى في أوج “حرية” بداية التسعينات.
ولا يمكننا أن ننكر الدور الذي لعبه التخوين والإتهامات بالعمالة في إفقاد المطالبات النسوية أي شرعية أو مصداقية خصوصا اللواتي طالبن بالعلمانية، وطالتهن (وتطالهن لغاية اليوم) شبهة خيانة العهد الثوري وهدم الهوية الوطنية عبر تنفيذ أجندات غربية عامة وفرنسية، خاصة أن تمويل الجمعيات حتى تلك التي تعنى بمساندة ضحايا الإرهاب في غالبيته فرنسي. ولعل هذا الاتهام بالذات لا يأتي من فراغ بل من حادث تاريخي لا يعرفه الكثيرون ولا يزال حاضراً، رغم ذلك، في العقل الجمعي وهو قيام مجموعة من النساء الجزائريات بحرق “الحايك” في ساحة النصر في العاصمة سنة ١٩٥٨ تحت رعاية السلطات الفرنسية التي أقامت لهن احتفالا بحضور mme Massu والتي كانت ترأس جمعية خيرية لرعاية أطفال جزائريين يتامى وتلقينهم مباديء الهوية الفرنسية. هذه السيدة هي نفسها زوجة الجنرال Massu الذي كان يقود في نفس التوقيت حرباً شعواء على المقاومة الجزائرية فيما يعرف ب “معركة الجزائر”. بقي هذا المثال عالقا في الأذهان وارتبطت أي مطالبات بخلع الغطاء التقليدي أو الحجاب به وبالتخوين المباشر لعدة عقود.
الصراع بين النسويات والإسلاميين يأخذ في الجزائر منحى خاصاً مرتبطاً بالدرجة الأولى بمسألة الهوية الوطنية وتبعاتها. حيث أن الصراع أيضا لغوي و “هوياتي” ما بين الفرانكوفونية والعربية، والذي استحوذ على حيز كبير من النقاشات العامة في الجزائر لدرجة أنه ساهم في تأجيل ظهور خطاب حقوقي ناضج وواعي. مسألة الهوية خلقت شيزوفرينيا في المجتمع وأيضاً على مستوى الدولة حول التوازن بين الجذور العربية والجانب لفرنسي من الهوية الجزائرية (١٣٢ سنة من التواجد كان ولابد أن تترك بصمتها الثقافية)، ناهيك عن الهوية الأمازيغية التي تعمدت الحكومات إقصائها عبر محاولات التعريب المختلفة.
