رثاءً للثورة وفتاتة ونحن

“نحن للوطن عشنا وضحينا فليبقى الزمان شاهد علينا”

كانت هذه إحدى أشهر الأغاني الثورية التي صدحت بها فتاتة الفنانة والمناضلة واللاجئة الصحراوية التي غادرت عالمنا منفية قسراً يوم الأحد الموافق ل 14 يونيو 2020، تغنت بأغانيها أجيال مختلفة أملاً وإيماناً وتعويذة بقاء في وجه محتل غاشم يحاول بشتى الطرق أن يفصل بين الشعب الصحراوي بجدران ملغمة وأخرى تسرق من الأجساد التي أخضعنها بالقوة الإستعمارية حق أن تقول لا في وجهه وتقاوم.

لم تكن الأغاني الثورية الصحراوية مجرد كلمات تبث فينا روح الحماس والمواصلة بل أملاً يخبرنا أن أصوات الثوريات التي تناجي فينا روح المقاومة تحتاجنا أيضا لنطمئنها ونتذكرها ونقاوم من أجلها.
رحيل فتاته ليس شيئاً عادياً ننعيه بحزن ثم نتجاوزه نحو مآسي أخرى يعرفها هذا الشعب جيداً، لكنه تذكير مستمر بالخذلان الذي طبع حياتها وحياة آلاف اللاجئات والنساء الصحراويات ممن وهبن أعمارهن وأصواتهن وأياديهن العارية لكي لا يكون الاحتلال غدا، وذلك لم يكن كافيا قطعا للثورة أو للشعب كي ينظروا لهن خارج أبوية النظام السياسي والاجتماعي الذي يعامل النساء كوقود للثورة و رماد لها، ويمر عبر أجسادهن ومصائرهن وتضحياتهن نحو الأرض التي تتطهر من سلطة الاحتلال لتبني سلطة أبوية بتشكلات يصعب تفكيكها مادامت تتوارى خلف “الأولويات” والتحرر الوطني دون التحرر الكلي، وجدلية الولاء/التخوين التي تستخدم كفزاعة لإسكات أصوات من يرفضن أن تظل النساء بالنسبة لرجال هذا الشعب مشاعاً للاستغلال والسيطرة.

أتذكر الآن وأنا أسمع صوت فتاتة القادم من عمق الثورة والألم كيف تم تسويق فكرة أننا مجتمع “يكرم المرأة” وكان يُضرب على ذلك مثال أن النساء شيدن دولة في المنفى وكن حاضرات في الثورة وتغنين لبث الحماس والمقاومة، وأتساءل عن معنى التكريم وكيف يفهم المهيمن التكريم، هل التفاخر بإستغلال جهود النساء الصحراويات دون أدنى تغيير في موقعهن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي يعد انتصاراً أو تكريماً لهن؟
كيف نتحدث عن حضور النساء في الثورة دون أن يغير ذلك في حياتهن شيئا على المستوى الشخصي؟ وكيف تنادي الثورة بشعارات الحرية والكرامة دون أن تمس البنيات الاجتماعية والسياسية التي تمارس قهرها على الفئات المضطهدة وعلى رأسها النساء؟

لم تتأخر المرأة الصحراوية منذ أول نداءٍ للحرية في النزول للميدان ولساحة القتال ولزنازين السجون وللشهادة، ولتقديم يديها لبناء ملاذ آمن لهذا الشعب رغم الحصار الذي كان ولا يزال يُفرض عليها من العائلة ومن النظام الأبوي المتجذر في كل شبر من أرضنا ونظمنا وقيمنا ومؤسساتنا، ورغم الخطاب الذكوري الموغل في الكراهية والذي لا يخجل من اشهار تمييزه وعنفه إذا ما تجرأت المرأة ورفضت أن تتصرف وتثور وفق ما يحددونه لها من الأعلى.
كم يلزمنا من رماد النساء كي نحيا أخيراً كم يلزمنا من التضحيات كي نسقط سلطة الأبوية علينا كما نسقط سلطة الاحتلال عن أرضنا؟

أعني بشكل دقيق هل يعلم من ينعي فتاتة اليوم أن ماضحت من أجله لايحمي نساء بلدها من العنف الجنسي بل ويجرم ضحاياه والناجيات منه، ويُقسم مصائرهن كما قضاياهن بين مجالس رجال القبيلة بإعتبار أن المرأة الصحراوية لا تملك شرعية التواجد خارج مذابح القبيلة وقرابينها التي تأتي في كل مرة على شكل انتزاع حقها في الحياة وفي العدالة بعد ذلك، ولايعترف بها النظام الثوري جِدّاً كشريكة في مؤسسة توريث القمع المسماة بالزواج بل يثقلها بواجبات إعداد شعب يتوارث فيه الرجال السلطة وتتوارث فيه النساء الاضطهاد.

النظام الثوري جِدّاً لايزال يتعامل مع النساء كأثاث سياسي أمام الآخر “الأبيض” الذي يتوجب على نظامنا مراضاته لكي لا يكون “رجعياً” لكنه لا يمانع أن يكون “ذكورياً” في واقع المعيش اليومي، ويجثم على النساء اللواتي يعملن تحت سلطته وينتزع منهن حتى حق الخطاب الشخصي لآلام ومعاناة النساء اللواتي سرق منهن قسراً الوعي بها وفرض عليهن إثبات الولاء لأسطورة التكريم في كل مرة كي لا يُواجهن بسلاح التخوين.

حياة النساء الصحراويات أيضاً لا تزال ملكاً لسلطة رجال العائلة والقبيلة والدولة ورفاق الكفاح في ميدان النضال داخل المدن المحتلة، رغم ذلك سيقوم الجميع بما فيهم هؤلاء بنعي المرأة اللاجئة والفنانة الثورية والمناضلة الميدانية وبعد رفع جلسة الحزن المؤقت سيذهب كل رجل صحراوي في سبيل مواصلة الهيمنة على مصائر نساء شعبه ومجتمعه وعائلته وزميلات كفاحه.

ونحن نرثي فتاتة كنساء صحراويات لنتذكر أن تضحياتها وتضحيات العديدات مثلها ستحذف من تاريخ الثورة التي وضعت لتخفي بنى السلطة وتسرق وعينا وتشكله حسب مصالح أعلى الهرم الأبوي، إن لم نرثيها بإضاءة حقها وحق من بقين خلفها لن نفعل شيئاً سوى مواصلة العيش كوقود لسلطتهم ورمادً ينثر في فيافي اللجوء والأرض المحتلة.


Fatata y los tebales, Nubenegra

نحو وعي نسوي


تنشر هذه المقالة ضمن ملف “الصحراء الغربية الوجه غير المرئي للنظام الأبوي”

أضف تعليق